الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأما الإحسان إلى الوالدين؛ فهو برهما.قال ابن عباس: لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار.وقالت عائشة: ما بر والده من شدَّ النظر إليه.وقال عروة: لا تمتنع عن شيء أحبَّاه.قوله تعالى: {وذي القربى} أي: ووصيناهم بذي القربى أن يصلوا أرحامهم.وأما اليتامى؛ فجمع: يتيم.قال الأصمعي: اليتم في الناس، من قبل الأب، وفي غير الناس: من قبل الأم.قال ابن الأنباري: قال ثعلب: اليتم معناه في كلام العرب: الانفراد.فمعنى صبي يتيم: منفرد عن أبيه.وأنشدنا: قال: يروى: يتيم ويئيم.فمن روى يتيم بالتاء؛ أراد: كل النساء ضعيف منفرد.ومن روى بالياء أراد: كل النساء يموت عنهن أزواجهن.وقال: أنشدنا ابن الأعرابي: قال: فقلنا له: زدنا، فقال: البيت يتيم: أي: منفرد.وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: إذا بلغ الصبي، زال عنه اسمه اليتم.يقال منه: يتم ييتم يُتما وَيَتما.وجمع اليتيم: يتامى، وأيتام.وكل منفرد عند العرب يتيم ويتيمة.قال: وقيل: أصل اليتم: الغفلة، وبه سمي اليتيم، لأنه يتغافل عن بره.والمرأة تدعى: يتيمة مالم تزوج، فاذا تزوجت زال عنها اسم اليتم، وقيل: لا يزول عنها اسم اليتم أبدًا.وقال أبو عمرو اليتم: الإبطاء، ومنه أخذ اليتيم، لأن البر يبطئ عنه.{والمساكين}: جمع مسكين، وهو اسم مأخوذ من السكون، كأن المسكين قد أسكنه الفقر.قوله تعالى: {وقولوا للناس حسنًا} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن عامر {حُسنا}: بضم الحاء والتخفيف، وقرأ حمزة والكسائي: {حَسَنًا} بفتح الحاء والتثقيل.قال أبو علي: من قرأ {حُسْنًا} فجائز أن يكون الحسن لغة في الحسن، كالبُخْل، والبَخَل، والرُشد والرشَد.وجاء ذلك في الصفة كما جاء في الاسم، ألا تراهم قالوا: العُرب والعرَب ويجوز أن يكون الحسن مصدرًا كالكفر والشكر والشغل، وحذف المضاف معه، كأنه قال: قولوا قولًا ذا حسن.ومن قرأ {حَسَنًا} جعله صفة، والتقدير عنده: قولوا للناس قولًا حسنًا، فحذف الموصوف.واختلفوا في المخاطب بهذا على قولين.أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، وابن جريج.ومعناه: اصدقوا وبينوا صفة النبي.والثاني: أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال أبو العالية: قولوا للناس معروفًا، وقال محمد بن علي بن الحسين: كلموهم بما تحبون أن يقولوا لكم.وزعم قوم أن المراد بذلك مساهلة الكفار في دعائهم إِلى الإسلام.فعلى هذا؛ تكون منسوخة بآية السيف.قوله تعالى: {ثم توليتم} أي: أعرضتم إلا قليلًا منكم.وفيهم قولان.أحدهما: أنهم أوّلوهم الذين لم يبدلوا.والثاني: أنهم الذين آمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في زمان. اهـ.
ويحتمل أن تكون أن مفسرة وأن تكون مع الفعل بدلًا من الميثاق كأنه قيل: أخذنا ميثاق بني إسرائيل توحيدهم. وثالثها: هو جواب قوله: {أخذنا ميثاق بني إسرائيل} إجراء له مجرى القسم كأنه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون. وهذا التكليف بالحقيقة يتضمن جميع ما لابد منه في الدين، لأن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه وبجميع ما يجب له ويستحيل عليه، ومسبوق أيضًا بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة.التكليف الثاني: قوله: {وبالوالدين إحسانًا} معناه يحسنون بالوالدين إحسانًا ليناسب {لا تعبدون} أو أحسنوا ليناسب {وقولوا} ويمكن أن يقدر وصيناهم عطفًا على {أخذنا} وهذا أنسب لمكان الباء، ولابد من تقدير القول إما قبل {لا تعبدوا} وإما قبل {أحسنوا} وإما قبل {قولوا} وإنما جعل الإحسان إلى الوالدين تاليًا لعبادة الله لوجوه منها: أنهما سبب وجود الولد كما أنهما سبب التربية، وغير الوالدين قد يكون سبب التربية فقط فلا إنعام بعد إنعام الله تعالى أعظم من إنعام الوالدين.ومنها أن إنعامهما يشبه إنعام الله تعالى من حيث إنهما لا يطلبان بذلك ثناء ولا ثوابًا {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا} [الإنسان: 9]. ومنها أنه تعالى لا يمل من إنعامه على العبد وإن أتى بأعظم الجرائم، فكذا الوالدان لا يقطعان عنه مواد كرمهما وإن كان غير بارٍ بهما، ومنها أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح والغبطة، والله سبحانه يأخذ الحبة فيربيها مثل جبل أحد. ومنها أن المناسبة والميل والحبة بين الوالد وولده ذاتية حتى عمت جميع الحيوان، كما أن المناسبة بين الواجب والممكن ذاتية لا عرضية، وههنا أسرار فليتأمل. ومنها أنه لا كمال يمكن للولد إلا ويطلبه الوالد لأجله ويريده عليه، كما أن الله تعالى لا خير يمكن للعبد إلا وهو يريده عليه، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب ونصب الأدلة وأزاح العلة، ومن غاية شفقة الوالدين أنهما لا يحسدان ولدهما إذا كان خيرًا منهما بل يتمنيان ذلك بخلاف غيرهما فإنه لا يرضى أن يكون غيره خيرًا منه. وتعظيم الوالدين أمر معتبر في جميع الشرائع ومركوز في كل العقول، وقد ورد «أطع الوالدين وإن كانا كافرين» وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركًا، ولهذا أطلق الإحسان إليهما في الآية إطلاقًا.وقد تلطف إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله: {يا أبت}، {يا أبت} والإحسان إليهما أن يحبهما من صميم القلب ويراعي دقائق الأدب والخدمة والشفقة ويبذل وسعه في رضاهما قولًا وفعلًا، ولا يمنع أعز أوقاته وكرائم أمواله عنهما، ويجتهد في تنفيذ وصاياهما ويذكرهما في صالح دعائه كما أرشد الله تعالى إلى جميع ما ذكرنا في قوله: {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23] إلى آخر الآية.التكليف الثالث: الإحسان إلى ذوي القرابة ويعبر عنه بصلة الرحم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم شجنة من الرحمن قال الله: من وصلك وصلته ومن قطعك قعطعته» والشجنة الاشتباك أي الرحم مشتقة من الرحمن يعني أنها قرابة من الله مشتبكة كاشتباك العروق والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة، ولهذا صار كالتابع لحق الوالدين لأن الإنسان إنما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين قال الشافعي: لو أصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث وغير الوارث، والمحرم وغير المحرم، والمسلم والكافر، والذكر والأنثى، والغني والفقير، والأجداد والأحفاد، لا الأبوان والولد على الأظهر، لأن الوالد والولد لا يعرفان في العرف بالقريب.وههنا دقيقة وهي أن العرب يحفظون الأجداد العالية ليرتفع نسبهم، ونحن لو ترقينا إلى الجد العالي وحسبنا أولاده كثروا، فلهذا قال الشافعي: نرتقي إلى أقرب جد ينسب هو إليه ويعرف به. وذكروا في مثاله أنه لو أوصى لأقارب الشافعي فإنا نصرفه إلى أولاد شافع فإنه منسوب إليه، ولا يدخل فيها أولاد علي والعباس وإن كان شافع وعلي والعباس كلهم أولاد السائب بن عبيد، والشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب ابن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف. قال المحققون: هذا في زمان الشافعي، وأما في زماننا فلا نصرفه إلا إلى أولاد الشافعي ولا نرتقي إلى بني شافع لأنه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا، ولا يدخل الأقارب من الأم في وصية العرب لأن قرابة الأم لا تعدها العرب قرابة ولا تفتخر بها أما لو أوصى لذي رحم زيد فيدخل فيه قرابة الأم في وصية العرب والعجم، لأن لفظ الرحم لا يختص بطرف الأب بحال. وذهبت طائفة إلى أن الأقوى على ما أجاب به العراقيون ومال إليه أبو حنيفة، هو أن أقارب الأم تدخل في الوصية سواء كانت في وصية العرب أو وصية العجم، وتوجيه الفارق ممنوع لقوله صلى الله عليه وسلم: «سعد خالي فليرني امرؤ خاله».والإحسان إلى الأقارب قريب من الإحسان إلى الوالدين، وذلك بأن يجتهد في رضاهم بما تيسر له عرفًا وشرعًا، وينفق عليهم بالمعروف إن كانوا معسرين وهو موسر.التكليف الرابع: الإحسان إلى اليتامى واليتيم من الأطفال الذي مات أبوه إلى أن يبلغ الحلم، فيجب على وليه حفظ ماله واستنماؤه قدر النفقة والزكاة ومؤن الملك بما أمكنه والقيام بمصالحه مع رعاية دقائق الغبطة وقضاء حقوق النصيحة. قال ابن عباس: يرفق بهم ويدنيهم ويمسح رأسهم. واليتم في غير الإنسان من قبل أمه، واليتيم من الدر ما لا أخت له وإنما يجمع يتيم على يتامى لأن اليتم لما كان من صفات الابتلاء حمل على الوجع والحبط. فكما قالوا في وجع وحبط للمنتفخ البطن، وجاعي وحباطي، قيل في يتيم يتامى. وفي الكشاف: إنه أجرى يتيم مجرى الأسماء نحو صاحب وفارس فقيل يتائم ثم يتامى على القلب وكذا في اليتيمة.التكليف الخامس: الإحسان إلى المساكين واحدها مسكين أخذ من السكون، كأن الفقر سكنه، أو لأنه الدائم السكون إلى الناس، لأنه لا شيء له كالسكير الدائم السكر وهو أسوأ حالًا من الفقير عند أكثر أهل اللغة وهو قول أبي حنيفة ومالك، واحتجوا عليه بقوله تعالى: {أو مسكينًا ذا متربة} [البلد: 16] وعند الشافعي وأحمد: الأمر بالعكس قالوا: اشتقاق الفقير من فقار الظهر، كأن فقاره انكسرت لشدة حاجته، والمسكين قد يملك ما يتعلل به كما في قوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين} [الكهف: 79] ويظهر أثر الخلاف فيما لو أوصى للفقراء دون المساكين أو بالعكس. والإحسان إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين ينبغي أن يكون مغايرًا للزكاة لأن العطف يقتضي التغاير.التكليف السادس: {وقولوا للناس حسنًا} بالوصف أي قولًا حسنًا. وحسنًا على المصدر أي قولًا ذا حسن، أو قولًا هو الحسن في نفسه لإفراط حسنه، أو ليحسن قولكم حسنًا. والظاهر أن المخاطبين بذلك هم الذين أخذ ميثاقهم لاتحاد القصة.قيل: إنه مخصوص إما بتخصيص الناس أي قولوا للمؤمنين حسنًا بدليل آية القتال {أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29] وإما بتخصيص القول أي قولوا للناس حسنًا في الدعاء إلى الله والأمر بالمعروف. وقال أهل الحقيقة: إنه على العموم وذلك أن كلام الناس مع الناس في الأمور الدينية إن كان بالدعوة إلى الإيمان وجب أن يكون بالرفق واللين كما قال لموسى {فقولا له قولًا لينًا} [طه: 44] وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم {ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159] وإن كان بالدعوة إلى الطاعة كالفساق فحسن القول أيضًا معتبر {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] {ادفع بالتي هي أحسن} [فصلت: 34] وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض باللطيف من القول لم يعدل إلى غيره، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وما دخل الخرق في شيء إلا شانه، فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخل تحت هذا القول. وعن الباقر: قولوا للناس ما تحبون أن يقال لكم.التكليف السابع والثامن: قوله: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وقد تقدم تفسيرهما. ولا شك في وجوب هذه التكاليف عليهم بدليل: أخذ الميثاق، ولأن ظاهر الأمر للوجوب ولترتب الذم عليه بتوليهم، وهذه التكاليف أيضًا واجبة في شرعنا. وعن ابن عباس: أن الزكاة نسخت كل حق. وضعف بأن إغاثة المضطر واجبة وإن لم تجب علينا الزكاة. واعلم أن التكليف إما بدني أو مالي وكل منهما إما عام أو خاص. فالبدني العام هو العبادة المطلقة، وهي أن يكون بكل الجوارح والقوى منقادًا مطيعًا مؤتمرًا لأمر الله تعالى، بحيث لا يرى لنفسه شيئًا من التصرف والاختيار كالعبد الماثل بين يدي مولاه وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لا تعبدون إلا الله}. والبدني الخاص هو الصلاة وأشار إليه بقوله: {وأقيموا الصلاة} فللصلاة أوقات مخصوصة وأركان وشروط معدودة. والمالي الخاص هو الزكاة لتخصصها بالأصناف الزكوية وبالنصاب وبالحول وغير ذلك. والمالي العام لكونه منوطًا بالقدرة. والإمكان سببه إما نسب أولًا، والنسب إما سابق أو مقارن أو لاحق. فالسابق الوالدان، والمقارن الأقارب، واللاحق اليتامى، لأنهم أولاد.وذلك إذا كان الولي جدًا أو بمنزلة الأولاد، وذلك إذا كان الولي غيره. وغير النسب إما الاحتياج والفقر وهو المساكين، أو الاشتراك في النوع، ولا يمكن إلا بالقول الحسن، وما ينخرط في سلكه من مكارم الأخلاق الفعلية «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن سعوهم بأخلاقكم» فالقول الحسن يشمل الأصناف المتقدمة أيضًا بهذا الاعتبار، وحين هذا الترتيب مما لا مزيد عليه، وقد كرر أكثر هذه المعاني في سورة النساء بضرب من التأكيد، فأكد العبادة بقوله: {ولا تشركوا به شيئًا} [النساء: 36] وأكد الإحسان إلى ذي القربى. وما يتلوه بتكرير الجار وهو الباء وبضم أصناف أخر وهم الجار وغيره إليهم فكأنه كالتفصيل لقوله: {وقولوا للناس حسنًا}.قوله تعالى: {ثم توليتم} قيل الخطاب لمتقدمي بني إسرائيل على طريقة الالتفات، ووجهه أن أول الكلام معهم فكذا آخره إلا بدليل يوجب الانصراف عن هذا الظاهر، وقيل: إنه خطاب لمن كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود، كأنه تعالى بين أن تلك المواثيق كما لزمهم التمسك بها فكذلك هي لازمة لكم لأنكم تعلمون ما في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته، فيلزمكم من الحجة مثل الذي لزمهم وأنتم مع ذلك قد توليتم إلا قليلًا منكم وهم الذين آمنوا وأنتم معرضون. الواو للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الإعراض، أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم. وقيل: ثم توليتم للمتقدمين وأنتم معرضون للمتأخرين. اهـ.
|